الدولة والتسلسل الهرمي- صراع المساواة والسلطة في المجتمعات القديمة

المؤلف: د. خالد عزب11.09.2025
الدولة والتسلسل الهرمي- صراع المساواة والسلطة في المجتمعات القديمة

مع بزوغ فجر المدن في العصور التاريخية الغابرة، شهدت حياة البشر نقلة نوعية نحو التنظيم والاستقرار، ومن هنا انطلقت شرارة الحياة المدنية في أرجاء المعمورة، ففي مصر وبلاد الرافدين، ترسخت أركان الدولة حوالي عام 3500 قبل الميلاد، ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت تظهر تجليات مماثلة على ضفاف النهر الأصفر (هونغ هو)، وعلى امتداد نهر السند، وفي ربوع بيرو وأمريكا الوسطى.

يرى بعض الباحثين أن نشأة الدول كانت مرتبطة بشكل وثيق بتطور وسائل السيطرة على السكان، إلا أن هذا الربط لا يتيح لنا التمييز الأثري بين المؤسسات العسكرية والشرطية في الآثار المتبقية من المجتمعات البدائية، وفي المقابل، اتجه فريق آخر من العلماء إلى اعتماد بعض الصفات المميزة كدليل على التحضر، مثل الكتابة، والحرف اليدوية ذات الطابع الفني الرفيع، وبعض أوجه الثقافة التي يبدعها المتخصصون.

التسلسل الهرمي

إلا أن مايكل هوفمان يطرح رؤية مغايرة، حيث يعتبر أن "أهم السمات البارزة التي تنبثق عن عملية الانتقال المعقدة نحو "التمدن" تتمثل في ظهور مجموعات بشرية قادرة على حشد وتوجيه قدر كبير من السلطة في أيديها، أي جميع مقومات الدولة بدءًا من المعابد والاحتفالات العامة، ومرورًا بالحروب والعمارة الرسمية والتجارة، وصولًا إلى النظم الاجتماعية والاقتصادية، حيث تتبوأ النخبة مكانة مرموقة في تجسيد القوة، وتتجسد دوامة المركزية".

وعليه، فإن مظاهر الحضارة ليست في الواقع جوهر الدولة والمجتمع، بل هي مجرد انعكاس ثانوي يتباين من مكان إلى آخر، ففي حين يميل أغلب الباحثين إلى الاعتقاد بأن الدول تتطور جنبًا إلى جنب مع تطور المدن، إلا أن المدن ليست دائمًا شرطًا لازمًا لنشأة الدول، فالإمبراطورية القديمة التي ازدهرت في أدغال كمبوديا قامت أساسًا دون الاعتماد على المدن، على الرغم من امتلاكها مراكز إدارية رسمية، وبالمثل، أسس المغول الرحّل بقيادة جنكيز خان إحدى أكبر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، وذلك إلى حد كبير دون الحاجة إلى المدن.

ولكن في نهاية المطاف، تقوم الدول على التسلسل الهرمي للمجتمع، على عكس القبيلة أو المجتمع البدائي الذي يقتصر على مستوى واحد من السلطة يعلو إنتاج الغذاء، وهو المجتمع الذي يتعايش فيه الرئيس جنبًا إلى جنب مع رفاقه والحرفيين والخدم.

ففي الدولة، نجد مستويات متعددة ومعقدة من السلطة، مما يؤدي إلى تركز القوة والنفوذ، الأمر الذي يستلزم زيادة مضطردة في الإنتاج وتنويعًا في أدواته، بالإضافة إلى التبادل السلعي والقيم الروحية، وكل ذلك يفضي إلى ترسيخ التسلسل الهرمي في المجتمع، وظهور التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بين الصيادين والفلاحين والتجار ورجال الدين وممثلي السلطة والإدارة، وهو ما يشير بوضوح إلى هرمية السلطة والمجتمع.

نظرة جامحة

إلا أن حلم المساواة ظل يراود البشرية منذ عهد أفلاطون، بل وحتى قبل ذلك، حيث سعى هؤلاء الحالمون إلى القضاء على التمييز الاجتماعي من أجل إرساء دعائم مجتمع خالٍ من الهرمية، ولكن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا توصلوا إلى أنه لا يمكن لمجتمع معقد أو مجموعة كبيرة من الناس داخل مجتمع متكامل أن ينفصلوا عن التنظيمات الهرمية، فكل المجتمعات الصناعية المعاصرة تبدو بالغة التعقيد، لدرجة أنها لا تستطيع البقاء في ظل غياب البنية الهرمية أو التسلسل الهرمي للمجتمع.

وربما تنجح بعض المجتمعات الصغيرة في تشكيل مجتمعات متساوية أو غير هرمية، ولكن هذه الفئات المجتمعية لا يمكن أن يتجاوز تعدادها بضع مئات من الأفراد، ويتحقق ذلك من خلال تجنب تطوير بعض أشكال التسلسل الهرمي.

إن المجتمعات التي تسعى جاهدة للصمود في وجه الآثار السلبية الناجمة عن تضارب المصالح، والشخصيات الدينية المتشددة، وتعارض الأولويات، تدين في واقع الأمر لبقائها واستمراريتها إلى المنتجات الحديثة والنظم الجديدة التي حصلت عليها من المجتمعات الهرمية التي تهرب منها.

لذا فإن الدعوة إلى الانعزال على غرار جماعة التكفير والهجرة في مصر خلال حقبة السبعينيات، تجعل من المستحيل إنتاج السيارات والطاقة والخدمات الطبية، فبدون التنظيم الهرمي لن يكون هناك تقييد لرغبات الناس والسلوك الفردي، وبدون هذه القيود ستكون النتيجة هي الفوضى الثقافية.

ففي مجتمع المساواة المطلقة، يحق لكل عامل في محطة توليد الكهرباء أن يقرر بنفسه حجم الكهرباء الذي ينبغي إنتاجه، ولمن ينبغي أن تذهب، إلى درجة أن المجتمعات المتساوية ستجد صعوبة بالغة في العيش بدون المنتجات والخدمات الحديثة.

إذًا فوجود المجتمعات يتوقف على وجود التسلسل الهرمي، ولكن على الجانب الآخر، ينظر الناس إلى التنظيمات الهرمية نظرة قلقة وغير راضية، حيث إن القرارات الصادرة عنها تؤثر على حياتهم بطرق تجعلهم يشعرون بالاستياء، فجميعنا نعاني من التلوث والنفايات السامة والتعدي على الأراضي الزراعية المنتجة للغذاء وتحويلها إلى مبانٍ، فهل الرجوع إلى النمط القبلي هو الحل؟، ويروج البعض أن تنظيم العمل السياسي هو الحل العملي الوحيد، ولكن لن يتم تفعيل ذلك إلا بالتسلسل الهرمي، الذي قاد المجتمعات القديمة لبناء الدولة، وهنا ينطلق علماء الآثار للبحث في بنية المجتمعات القديمة وتطورها.

تحالفات مؤقتة

في مناطق عديدة من العالم، نجح العديد من القادة البارزين، سواء على المستوى الاجتماعي كرؤساء قبائل أو عشائر، أو حتى كبار السن ممن يتمتعون بالهيبة والحكمة، في قيادة مجتمعاتهم وإعادة تنظيمها، وكان القائد يعيد صياغة المجتمع وفقًا لاحتياجاته ووفقًا لرؤيته الخاصة للسلطة، ويصاحب هذا إعادة توزيع للثروة.

وكان زعماء القبائل يقيمون تحالفات فيما بينهم، ولكنها كانت ذات طابع مؤقت، إلا إذا خضع بعضهم بالقوة لسيطرة أحدهم، وهنا نجد أن التجربة التاريخية تشير إلى أن المجتمعات التي تولى قيادتها زعيم واحد وجدت نفسها تتحرك نحو أسلوب جديد بعيد عن التنظيمات الأكثر تعقيدًا التي ورثتها: نابليون بونابرت، ومحمد علي في مصر، لذا فإن وجود الدولة بحجمها وتعقيدها وسلطتها، كان ابتكارًا عظيمًا، ولكنها دائمًا في حاجة ماسة إلى التحديث والتغيير؛ لمواكبة متغيرات المجتمعات وتطوراتها.

لكن هناك عاملًا ما غيّر من سلوكيات هذه المجتمعات، وبسببه تم تجاوز حواجز المساواة، وأصبح غالبية المجتمع يوافقون على مبادئ عدم المساواة، وذلك من أجل الوصول إلى الموارد الطبيعية، لذا فإن النخب الحاكمة تكون عادة في وضع يمكّنها من الضغط لزيادة سيطرتها.

ولكن الجديد يكمن في الخطاب الإقناعي التبريري، ففي الوقت الذي تستمر فيه النخب الحاكمة في البحث عن وسائل جديدة لزيادة كل من العائدات والخدمات والسلع، فإنها تسعى أيضًا للحصول على تأييد مناصريها داخل مجتمعاتهم وخارجها على حد سواء، وقس على ذلك النجاح الباهر الذي حققته الصين في العصر الحديث، والذي أتاح لحزب واحد السيطرة على السلطة لعقود متمادية.

ولكن هذا السعي المحموم نحو الازدهار الاقتصادي يدفع الطبقات الحاكمة عبر العصور إلى تقديم سياسات تبريرية للطبقات الأخرى المستضعفة، أو إجبارها على الخضوع والاستسلام أو الاستغلال والتضحية، فنرى تارة العبودية، وتارة السخرة، وتارة الوقوع تحت سحر الإعلام، فالاستغلال هو السمة المميزة للسلطة عبر العصور، لذا فإنه من الصعب تصور أي نظام هرمي يعمل بصورة معقدة دون ممارسة الاستغلال.

سيطرة وتوسع

إن الحاجز الأقوى الذي يعترض طريق تكوين أي دولة هو قيم المساواة، وهنا نستحضر من صفحات التاريخ كيف تمكن كبار رجال الدولة والرؤساء من التعامل مع هذه القيم، ففي البيئات التي تتمتع بإمكانات هائلة لإنتاج الغذاء، مثل منطقة الشرق الأدنى (مصر والعراق) وحوض النهر الأصفر في الصين، سرعان ما تحول كبار الرجال إلى رؤساء، والرؤساء إلى ملوك.

وفي هذه المناطق، لم يجد الرؤساء صعوبة في ابتكار وسائل لاكتساب المزيد والمزيد من السيطرة على الإنتاج المحتمل من الناس والأرض، كما سعوا إلى التوسع من خلال غزو الأراضي المجاورة، لتعزيز ثرواتهم ومواردهم، وحاولوا التعامل مع رعاياهم بكل السبل الممكنة، من خلال التودد والإقناع تارة، والإكراه والترهيب تارة أخرى، وذلك من أجل حثهم على العمل بجد وإخلاص وبمعدل أكبر.

ولكن علماء الاجتماع يشيرون إلى أن الناس في القرى المتساوية ربما سينتجون أكثر، ولكن لن تتاح لهم فرصة للاستمتاع بثمار عملهم، أما الوضع الأصعب فهو وضع هؤلاء الرعايا في الدول الذين يعملون في ظروف قاسية وشاقة كل يوم لمجرد البقاء على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه، نجد آخرين في ذات الدولة يخلصون في أعمالهم من أجل السلطة والثروة؛ بهدف العيش في مستوى أعلى من الرفاهية والنعيم.

وهنا يسعى الحاكم للسيطرة على كافة الموارد المتاحة في منطقته، ولا بدّ أن يفعل ذلك بأقصى قدر من الفاعلية من خلال حشد طاقات جميع الناس القاطنين في المجتمعات التي يسيطر عليها، وبعبارة أخرى من خلال تنظيم منطقته كدولة ذات مؤسسات وجماعات وأفراد يتبادلون المصالح، حيث تبرز ديناميكية شبكات التجارة على غرار التجارة المزدهرة بين العراق وبلاد السند، ومصر وشمال أفريقيا وبلاد الشام في العصور القديمة.

كما نرى أن الجيوش الأكثر تجهيزًا والأنظمة الأكثر فاعلية في جمع المعلومات، كانت ضرورية للغاية لحماية الدول والمجتمعات من الأخطار الخارجية، وهذا ما نجحت فيه مصر في أغلب العصور الفرعونية، والعراق في خلال العصور السومرية والأكدية والآشورية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة